فصل: تفسير الآية رقم (194)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏188‏]‏

‏{‏وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏

قال علي ابن أبي طلحة، وعن ابن عباس‏:‏ هذا في الرجل يكون عليه مال، وليس عليه فيه بَيِّنة، فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام، وهو يعرف أن الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم آكل حرامٍ‏.‏

وكذا روي عن مجاهد، وسعيد بن جُبَير، وعكرمة، والحسن، وقتَادة، والسدّي، ومقاتل بن حَيّان، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنهم قالوا‏:‏ لا تُخَاصمْ وأنت تعلمُ أنَّك ظالم‏.‏ وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة‏:‏ أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ألا إنما أنا بَشَر، وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من نار، فَلْيَحْملْهَا، أو ليذَرْها‏"‏ ‏.‏ فدلت هذه الآية الكريمة، وهذا الحديث على أنّ حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر، فلا يُحلّ في نفس الأمر حرامًا هو حرام، ولا يحرم حلالا هو حلال، وإنما هو يلزم في الظاهر، فإن طابق في نفس الأمر فذاك، وإلا فللحاكم أجرُه وعلى المحتال وزْره؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ طائفة‏]‏ ‏{‏مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجون في كلامكم‏.‏

قال قتادة‏:‏ اعلم -يا ابن آدم -أن قضاء القاضي لا يُحِل لك حرامًا، ولا يُحقُّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى ويشهد به الشهود، والقاضي بَشَر يخطئ ويصيب، واعلموا أنّ من قُضي له بباطل أنّ خصومته لم تَنْقَض حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبطل للمحق بأجودَ مما قضي به للمبطل على المحق في الدنيا‏.‏

وقال أبو حنيفة‏:‏ حكم الحاكم بطلاق الزوجة إذا شهد عنده شاهدا زور في نفس الأمر، ولكنهما عدلان عنده يحلها للأزواج حتى للشاهدين ويحرمها على زوجها الذي حكم بطلاقها منه، وقالوا‏:‏ هذا كلعان المرأة، إنه يبينها من زوجها ويحرمها عليه، وإن كانت كاذبة في نفس الأمر، ولو علم الحاكم بكذبها لحدها ولما حرمها وهذا أولى‏.‏

مسألة‏:‏

قال القرطبي‏:‏ أجمع أهل السنة على أن من أكل مالا حرامًا ولو ما يصدق عليه اسم المال أنه يفسق، وقال بشر بن المعتمر في طائفة من المعتزلة‏:‏ لا يفسق إلا بأكل مائتى درهم فما زاد، ولا يفسق بما دون ذلك، وقال الجبائي‏:‏ يفسق بأكل درهم فما فوقه إلا بما دونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏

قال العوفي عن ابن عباس‏:‏ سأل الناسُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ ‏[‏وَالْحَجِّ‏]‏ يعلمون بها حِلَّ دَيْنهم، وعدّة نسائهم، ووقتَ حَجِّهم‏.‏

وقال أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية‏:‏ بلغنا أنَّهم قالوا‏:‏ يا رسول الله، لم خُلِقَتْ الأهلة‏؟‏ فأنزل الله ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ‏}‏ يقول‏:‏ جَعَلَهَا الله مواقيت لصَوْم المسلمين وإفطارهم، وعدة نسائهم، ومَحَلّ دَيْنهم‏.‏ وكذا رُوي عن عَطَاء، والضحاك، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس، نحو ذلك‏.‏

وقال عبد الرزاق، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد، عن نافع، عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فَعُدُّوا ثلاثين يومًا‏"‏‏.‏ ورواه الحاكم في مستدركه، من حديث ابن أبي رواد، به‏.‏ وقال‏:‏ كان ثقة عابدًا مجتهدًا شريف النسب، فهو صحيح الإسناد، ولم يخرجاه‏.‏

وقال محمد بن جابر، عن قيس بن طلق؛ عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏جعل الله الأهلَّة، فإذا رأيتم الهلال فصُوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن أغْمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين‏"‏ ‏.‏ وكذا روي من حديث أبي هريرة، ومن كلام عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا‏}‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال‏:‏ كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتَوْا البيت من ظهره، فأنزل الله ‏{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا‏}‏‏.‏ وكذا رواه أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال‏:‏ كانت الأنصار إذا قدموا من سَفَر لم يدخل الرجل من قبل بابه، فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر‏:‏ كانت قريش تدعى الحُمْس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذْ خرج من بابه، وخرج معه قُطْبة بن عامر الأنصاري، فقالوا‏:‏ يا رسول الله، إن قطبة ابن عامر رجل تاجر وإنه خرج معك من الباب‏.‏ فقال له‏:‏ ‏"‏ما حملك على ما صنعت‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ رأيتك فعلتَه ففعلتُ كما فعلتَ‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏إني ‏[‏رجل‏]‏ أحمس‏"‏‏.‏ قال له‏:‏ فإن ديني دينك‏.‏ فأنزل الله ‏{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا‏}‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏ ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه‏.‏ وكذا روي عن مجاهد، والزهري، وقتادة، وإبراهيم النخعي، والسدي، والربيع بن أنس‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ كان أقوام من أهل الجاهليّة إذا أراد أحدُهم سَفرًا وخرج من بيته يُريد سفره الذي خرج له، ثم بدا له بَعْد خُروجه أن يُقيم ويدعَ سفره، لم يدخل البيت من بابه، ولكن يتسوّره من قبل ظهره، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا ‏[‏وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى‏]‏ الآية‏.‏

وقال محمد بن كعب‏:‏ كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها ويَرَوْنَ أن ذلك أدنى إلى البر، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا‏}‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به، واتركوا ما نهاكم عنه ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ غدا إذا وقفتم بين يديه، فيجزيكم بأعمالكم على التمام، والكمال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190 - 193‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏

قال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ‏}‏ قال‏:‏ هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، ويكف عَمَّن كف عنه حتى نزلت سورة براءة وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم حتى قال‏:‏ هذه منسوخة بقوله‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏ وفي هذا نظر؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ‏}‏ إنما هو تَهْييج وإغراء بالأعداء الذين همّتْهم قتال الإسلام وأهله، أي‏:‏ كما يقاتلونكم فقاتلوهم أنتم، كما قال‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏؛ ولهذا قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لتكن همتكم منبعثة على قتالهم، كما أن همتهم منبعثة على قتالكم، وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها، قصاصًا‏.‏

وقد حكى عن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أن أول آية نزلت في القتال بعد الهجرة، ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا‏}‏ الآية ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏ وهو الأشهر وبه ورد الحديث‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ‏}‏ أي‏:‏ قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي -كما قاله الحسن البصري -من المَثُلة، والغُلُول، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان وأصحاب الصوامع، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة، كما قال ذلك ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومقاتل بن حيان، وغيرهم‏.‏ ولهذا جاء في صحيح مسلم، عن بُرَيدة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تَغُلّوا، ولا تَغْدروا، ولا تُمَثِّلُوا، ولا تقتلوا وليدًا، ولا أصحاب الصوامع‏"‏‏.‏ رواه الإمام أحمد‏.‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث جيوشه قال‏:‏ ‏"‏اخرجوا بسم الله، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا، ولا تُمَثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع‏"‏‏.‏ رواه الإمام أحمد‏.‏

ولأبي داود، عن أنس مرفوعًا، نحوه ‏.‏ وفي الصحيحين عن ابن عمر قال‏:‏ وجُدت امرأة في بعض مغازي النبيّ صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا مُصعب بن سَلام، حدثنا الأجلح، عن قيس بن أبي مسلم، عن رِبْعي ابن حِرَاش، قال‏:‏ سمعت حُذَيفة يقول‏:‏ ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا واحدًا، وثلاثة، وخمسة، وسبعة، وتسعة، وأحدَ عشَرَ، فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلا وترك سائرَها، قال‏:‏ ‏"‏إن قومًا كانوا أهلَ ضَعْف ومسكنة، قاتلهم أهلُ تجبر وعداء، فأظهر الله أهل الضعف عليهم، فعمدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه‏"‏‏.‏

هذا حديث حَسَنُ الإسناد‏.‏ ومعناه‏:‏ أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء، فاعتَدوا عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم، أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء‏.‏ والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا‏.‏ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتلُ الرجال، نبَّه تعالى على أنّ ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغ وأشد وأعظم وأطَم من القتل؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ‏}‏ قال أبو مالك‏:‏ أي‏:‏ ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل‏.‏

وقال أبو العالية، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع ابن أنس في قوله‏:‏ ‏{‏وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ‏}‏ يقول‏:‏ الشرك أشد من القتل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ كما جاء في الصحيحين‏:‏ ‏"‏إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعْضَد شجره، ولا يُخْتَلى خَلاه‏.‏ فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا‏:‏ إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم‏"‏‏.‏

يعني بذلك -صلوات الله وسلامه عليه -قتالَه أهلها يومَ فتح مكة، فإنه فتحها عنوة، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة، وقيل‏:‏ صلحًا؛ لقوله‏:‏ من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن‏.‏

‏[‏وقد حكى القرطبي‏:‏ أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ‏.‏ قال قتادة‏:‏ نسخها قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ نسخها قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏ وفي هذا نظر‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يَبْدَؤوكم بالقتال فيه، فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعا للصيال كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال، لَمَّا تألبت عليه بطونُ قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ، ثم كف الله القتال بينهم فقال‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 24‏]‏،، وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ فإن تَركُوا القتال في الحرم، وأنابوا إلى الإسلام والتوبة، فإن الله ‏[‏غفور رحيم‏]‏ يغفر ذنوبهم، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله، فإنه تعالى لا يتعاظَمُه ذَنْب أنْ يغفره لمن تاب منْه إليه‏.‏

ثم أمر تعالى بقتال الكفَّار‏:‏ ‏{‏حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ شرك‏.‏ قاله ابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والحسن، وقتادة، والربيع، ومقاتل بن حيان، والسُّدي، وزيد بن أسلم‏.‏

‏{‏وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ يكونَ دينُ الله هو الظاهر ‏[‏العالي‏]‏ على سائر الأديان، كما ثبت في الصحيحين‏:‏ عن أبي موسى الأشعري، قال‏:‏ سُئِل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يُقاتل شجاعة، ويقاتل حَميَّة، ويقاتل رياء، أيّ ذلك في سبيل الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله‏"‏ ‏.‏ وفي الصحيحين‏:‏ ‏"‏أمرْتُ أنْ أقاتلَ الناس حتى يقولوا‏:‏ لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله‏"‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ يقول‏:‏ فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك، وقتال المؤمنين، فكُفُّوا عنهم، فإنّ مَنْ قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم، ولا عُدوانَ إلا على الظالمين، وهذا معنى قول مجاهد‏:‏ لا يُقَاتَلُ إلا من قاتل‏.‏ أو يكون تقديره؛ فإن انتهوا فقد تَخَلَّصُوا من الظلم، وهو الشرك‏.‏ فلا عدوان عليهم بعد ذلك، والمراد بالعُدْوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة، كقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏، ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏‏.‏ ولهذا قال عكرمة وقتادة‏:‏ الظالم‏:‏ الذي أبى أن يقول‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وقال البخاري‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ ‏[‏وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ‏]‏ الآية‏:‏ حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا عُبَيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال‏:‏ أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا ‏:‏ إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج‏؟‏ قال‏:‏ يمنعني أن الله حرم دم أخي‏.‏ قالا ألم يقل الله‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله‏.‏ زاد عثمان ابن صالح عن ابن وهب قال‏:‏ أخبرني فلان وحيوة بن شريح، عن بكر بن عمرو المعافري أن بُكَير بن عبد الله حدثه، عن نافع‏:‏ أن رجلا أتى ابن عمر فقال ‏[‏له‏]‏ يا أبا عبد الرحمن، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر عامًا، وتترك الجهاد في سبيل الله، وقد علمت ما رغب الله فيه‏؟‏ فقال‏:‏ يا ابن أخي، بُني الإسلام على خمس‏:‏ الإيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت‏.‏ قال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏، ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ قال‏:‏ فعلنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا وكان الرجل يفتن في دينه‏:‏ إما قتلوه أو عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة، قال‏:‏ فما قولك في علي وعثمان‏؟‏ قال‏:‏ أما عثمان فكان الله عفا عنه، وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه، وأشار بيده فقال‏:‏ هذا بيته حيث ترون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏194‏]‏

‏{‏الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏}‏

قال عكرمة، عن ابن عباس، والضحاك، والسدي، ومِقْسَم، والربيع بن أنس، وعطاء وغيرهم‏:‏ لما سار رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرًا في سنة ست من الهجرة، وحَبَسَه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعْدة، وهو شهر حرام، حتى قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية، هو ومن كان ‏[‏معه‏]‏ من المسلمين، وأقَصه الله منهم، فنزلت في ذلك هذه الآية‏:‏ ‏{‏الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ‏}‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال‏:‏ لم يكن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزى ويُغْزَوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ‏.‏

هذا إسناد صحيح؛ ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم -وهو مُخَيِّم بالحديبية -أن عثمان قد قتل -وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين -بايع أصحابه، وكانوا ألفًا وأربعمائة تحتَ الشجرة على قتال المشركين، فلما بلغه أن عثمان لم يقْتل كفّ عن ذلك، وجنح إلى المسالمة والمصالحة، فكان ما كان‏.‏

وكذلك لما فرغ من قتال هَوازِن يوم حنين وتَحَصَّن فَلُّهم بالطائف، عَدَل إليها، فحاصَرَها ودخل ذو القَعْدة وهو محاصرها بالمنجنيق، واستمر عليها إلى كمال أربعين يومًا، كما ثبت في الصحيحين عن أنس‏.‏ فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تُفْتَحْ، ثم كر راجعًا إلى مكة واعتمر من الجعرانه، حيث قسم غنائم حُنين‏.‏ وكانت عُمْرته هذه في ذي القعدة أيضًا عام ثمان، صلوات الله وسلامه عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ‏}‏ أمْر بالعدل حتى في المشركين‏:‏ كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 126‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن قوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ‏}‏ نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهَاد، ثم نسخ بآية الجهاد بالمدينة‏.‏ وقد رَدّ هذا القول ابنُ جرير، وقال‏:‏ بل ‏[‏هذه‏]‏ الآية مدنية بعد عُمْرة القَضيَّة، وعزا ذلك إلى مجاهد، رحمه الله‏.‏

وقد أطلق هاهنا الاعتداء على الاقتصاص، من باب المقابلة، كما قال عمرو بن أم كلثوم‏:‏

ألا لا يجهلن أحدٌ علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وقال ابن دريد‏:‏

لي استواء إن موالى استوا *** لي التواء إن تعادى التوا

وقال غيره‏:‏

ولي فرس للحلم بالحلم ملجم *** ولي فرس للجهل بالجهل مسرج

ومن رام تقويمي فإني مقوم *** ومن رام تعويجي فإني معوج

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏}‏ أمْرٌ لهم بطاعة الله وتقواه، وإخبارٌ بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏195‏]‏

‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏

قال البخاري‏:‏ حدثنا إسحاق، أخبرنا النضر، أخبرنا شعبة عن سليمان قال‏:‏ سمعت أبا وائل، عن حذيفة‏:‏ ‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في النفقة‏.‏

ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن محمد بن الصباح، عن أبي معاوية عن الأعمش، به مثله‏.‏ قال‏:‏ وروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حَيَّان، نحو ذلك‏.‏

وقال الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران قال‏:‏ حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على صف العدو حتى خَرَقه، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس‏:‏ ألقى بيده إلى التهلكة‏.‏ فقال أبو أيوب‏:‏ نحن أعلم بهذه الآية إنما نزلت فينا، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَهِدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار نَجِيَا، فقلنا‏:‏ قد أكرمنا الله بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونَصْرِه، حتى فشا الإسلام وكثر أهلُه، وكنا قد آثرناه على الأهلين والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلينا وأولادنا فنقيم فيهما‏.‏ فنزل فينا‏:‏ ‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ فكانت التهلكة ‏[‏في‏]‏ الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد‏.‏

رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وعَبْدُ بن حُمَيد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وابن جرير وابن مَرْدُويه، والحافظ أبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، كلهم من حديث يزيد بن أبي حبيب، به‏.‏

وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح غريب‏.‏ وقال الحاكم‏:‏ على شرط الشيخين، ولم يخرجاه‏.‏ ولفظ أبي داود عن أسلم أبي عمران‏:‏ كنا بالقسطنطينية -وعلى أهل مصر عقبة بن عامر؛وعلى أهل الشام رجل، يريد بن فَضَالة بن عُبَيد -فخرج من المدينة صَف عظيم من الروم، فصففنا لهم فحَمَل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم‏:‏ ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا‏:‏ سبحان الله، ألقى بيده إلى التهلكة‏.‏ فقال أبو أيوب‏:‏ يا أيها الناس، إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار، وإنا لما أعز الله دينه، وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا‏:‏ لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها‏.‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وقال أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال‏:‏ قال رجل للبراء بن عازب‏:‏ إن حملتُ على العدوّ وحدي فقتلوني أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة‏؟‏ قال‏:‏ لا قال الله لرسوله‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 84‏]‏، إنما هذا في النفقة‏.‏ رواه ابن مردويه وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، به‏.‏ وقال‏:‏ صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه‏.‏ ورواه الثوري، وقيس بن الربيع، عن أبي إسحاق، عن البراء -فذكره‏.‏ وقال بعد قوله‏:‏ ‏{‏لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ‏}‏ ولكن التهلكة أن يُذْنِبَ الرجلُ الذنبَ، فيلقي بيده إلى التهلكة ولا يتوب‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح -كاتب الليث -حدثني الليث، حدثنا عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام‏:‏ أن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث أخبره‏:‏ أنهم حاصروا دمشق، فانطلق رجل من أزد شنوءة، فأسرع إلى العدو وحده ليستقبل، فعاب ذلك عليه المسلمون ورفعوا حديثه إلى عَمْرو بن العاص، فأرسل إليه عمرو فَرَدّه، وقال عمرو‏:‏ قال الله‏:‏ ‏{‏وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ ليس ذلك في القتال، إنما هو في النفقة أن تُمْسكَ بيدك عن النفقة في سبيل الله‏.‏ ولا تلق بيدك إلى التهلكة‏.‏

وقال حماد بن سلمة، عن داود، عن الشعبي، عن الضحاك بن أبي جُبَيْرة قال‏:‏ كانت الأنصار يتصدقون وينفقون من أموالهم، فأصابتهم سَنَة، فأمسكوا عن النفقة في سبيل الله فنزلت‏:‏ ‏{‏وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏

وقال الحسن البصري‏:‏ ‏{‏وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ قال‏:‏ هو البخل‏.‏

وقال سِمَاك بن حرب، عن النعمان بن بشير في قوله‏:‏ ‏{‏وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ أن يذنب الرجل الذنب، فيقول‏:‏ لا يغفر لي، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ رواه ابن مَرْدويه‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ ورُويَ عن عُبيدَة السلماني، والحسن، وابن سيرين، وأبي قلابة -نحو ذلك‏.‏ يعني‏:‏ نحوُ قول النعمان بن بشير‏:‏ إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له، فيلقي بيده إلى التهلكة، أي‏:‏ يستكثر من الذنوب فيهلك‏.‏ ولهذا رَوَى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ التهلكة‏:‏ عذاب الله‏.‏

وقال ابن أبي حاتم وابن جرير جميعًا‏:‏ حدثنا يونس، حدثنا ابن وهب، أخبرني أبو صخر، عن القُرَظي‏:‏ أنه كان يقول في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ قال‏:‏ كان القوم في سبيل الله، فيتزود الرجل‏.‏ فكان أفضل زادًا من الآخر، أنفق البائس من زاده، حتى لا يبقى من زاده شيء، أحب أن يواسي صاحبه، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏‏.‏

وقال ابن وهب أيضًا‏:‏ أخبرني عبد الله بن عياش عن زيد بن أسلم في قول الله‏:‏ ‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ وذلك أنّ رجالا كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بغير نفقة، فإما يُقْطَعُ بهم، وإما كانوا عيالا فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله، ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، والتهلكة أن يهلك رجال من الجوع أو العطش أو من المشي‏.‏ وقال لمن بيده فضل‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ومضمون الآية‏:‏ الأمرُ بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القُرُبات ووجوه الطاعات، وخاصّة صرفَ الأموال في قتال الأعداء وبذلهَا فيما يَقْوَى به المسلمون على عدوهم، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار إن لزمه واعتاده‏.‏ ثم عطف بالأمر بالإحسان، وهو أعلى مقامات الطاعة، فقال‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏196‏]‏

‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏

لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعَطَفَ بذكر الجِهَاد، شرَعَ في بيان المناسك، فأمرَ بإتمام الحجّ والعُمْرة، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما؛ ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ صُدِدْتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما‏.‏ ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة مُلْزِمٌ، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها، كما هما قولان للعلماء‏.‏ وقد ذكرناهما بدلائلهما في كتابنا ‏"‏الأحكام‏"‏ مستقصى ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال شعبة، عن عمرو بن مُرّة، عن عبد الله بن سَلَمة، عن علي‏:‏ أنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ قال‏:‏ أن تُحْرِم من دُوَيرة أهلك‏.‏

وكذا قال ابن عباس، وسعيد بن جبير، وطاوس‏.‏ وعن سفيان الثوري أنه قال في هذه الآية‏:‏ إتمامهما أن تحرم من أهلك، لا تريد إلا الحج والعمرة، وتُهِلّ من الميقات ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت‏:‏ لو حججت أو اعتمرت، وذلك يجزئ، ولكن التمام أن تخرج له، ولا تخرج لغيره‏.‏ وقال مكحول‏:‏ إتمامهما إنشاؤهما جميعًا من الميقات‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر عن الزهري قال‏:‏ بلغنا أنّ عمر قال في قول الله ‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏قال‏]‏‏:‏ من تمامهما أن تُفْرد كُلَّ واحد منهما من الآخر، وأن تعتمر في غير أشهر الحج؛ إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ‏}‏‏.‏

وقال هُشَيْم عن ابن عون قال‏:‏ سمعت القاسم بن محمد يقول‏:‏ إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة فقيل له‏:‏ العمرة في المحرم‏؟‏ قال‏:‏ كانوا يرونها تامة‏.‏ وكذا روي عن قتادة بن دعامة، رحمهما الله‏.‏

وهذا القول فيه نظر؛ لأنه قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَرٍ كلها في ذي القعدة‏:‏ عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست، وعمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع، وعمرة الجِعرّانة في ذي القعدة سنة ثمان، وعمرته التي مع حجته أحرم بهما معًا في ذي القعدة سنة عشر، ولا اعتمر قَطّ في غير ذلك بعد هجرته، ولكن قال لأم هانئ ‏"‏عُمْرة في رمضان تعدل حجة معي‏"‏ ‏.‏ وما ذاك إلا لأنها ‏[‏كانت‏]‏ قد عزمت على الحج معه، عليه السلام، فاعتاقَتْ عن ذلك بسبب الطهر، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري، ونَصّ سعيد بن جبير على أنه من خصائصها، والله أعلم‏.‏

وقال السدي في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ أقيموا الحج والعمرة‏.‏ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ يقول‏:‏ من أحرم بالحج أو بالعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما، تمام الحج يوم النحر، إذا رمى جمرة العقبة، وطاف بالبيت، وبالصفا، والمروة، فقد حل‏.‏

وقال قتادة، عن زُرَارة، عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الحج عرفة، والعمرة الطواف‏.‏ وكذا روى الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة في قوله‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ قال‏:‏ هي ‏[‏في‏]‏ قراءة عبد الله‏:‏‏"‏وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت‏"‏ لا تُجاوز بالعمرة البيت‏.‏ قال إبراهيم‏:‏ فذكرت ذلك لسعيد ابن جبير، فقال‏:‏ كذلك قال ابن عباس‏.‏

وقال سفيان عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال‏:‏ ‏"‏وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت‏"‏ وكذا روى الثوري أيضًا عن إبراهيم، عن منصور، عن إبراهيم أنه قرأ‏:‏ ‏"‏وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت‏"‏‏.‏

وقرأ الشعبي‏:‏ ‏"‏وأتموا الحج والعمرةُ لله‏"‏ برفع العمرة، وقال‏:‏ ليست بواجبة‏.‏ وروي عنه خلاف ذلك‏.‏

وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة، عن أنس وجماعة من الصحابة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه‏:‏ ‏"‏من كان معه هَدْي فليهل بحج وعمرة‏"‏‏.‏ وقال في الصحيح أيضًا‏:‏ ‏"‏دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة‏"‏‏.‏

وقد روى الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في سبب نزول هذه الآية حديثًا غريبًا فقال‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو عبد الله الهروي، حدثنا غسان الهروي، حدثنا إبراهيم بن طَهْمَان، عن عطاء، عن صفوان بن أمية أنه قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم متضمخ بالزعفران، عليه جبة، فقال‏:‏ كيف تأمرنى يا رسول الله في عمرتي‏؟‏ قال‏:‏ فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أين السائل عن العُمْرة‏؟‏ ‏"‏ فقال‏:‏ ها أنا ذا‏.‏ فقال له‏:‏ ‏"‏ألق عنك ثيابك، ثم اغتسل، واستنشق ما استطعت، ثم ما كنت صانعًا في حَجّك فاصنعه في عمرتك‏"‏ هذا حديث غريب وسياق عجيب، والذي ورد في الصحيحين، عن يعلى بن أمية في قصة الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة فقال‏:‏ كيف ترى في رجل أحرم بالعمرة وعليه جُبة وخَلُوق‏؟‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه الوحي، ثم رفع رأسه فقال‏:‏ ‏"‏أين السائل‏؟‏ ‏"‏ فقال‏:‏ ها أنا ذا، فقال‏:‏ ‏"‏أما الجبة فانزعها، وأما الطيب الذي بك فاغسله، ثم ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عُمْرتك‏"‏ ‏.‏ ولم يذكر فيه الغسل والاستنشاق ولا ذكر نزول الآية ، وهو عن يعلى بن أمية، لا ‏[‏عن‏]‏ صفوان بن أمية، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ ذكروا أنّ هذه الآية نزلت في سنة ست، أيْ عام الحديبية، حين حال المشركون بين رسُول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت، وأنزل الله في ذلك سورةَ الفتح بكمالها، وأنزل لهم رُخْصَةً‏:‏ أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة، وأن يَتَحَللوا منإحرامهم، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم ويتحللوا‏.‏ فلم يفعلوا انتظارا للنسخ حتى خرج فحلق رأسه، ففعل الناس وكان منهم من قَصّر رأسه ولم يحلقه، فلذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏رَحِم الله المُحَلِّقين‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ والمقصرين يا رسول الله‏؟‏ فقال في الثالثة‏:‏ ‏"‏والمقصرين‏"‏‏.‏ وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك، كُلُّ سبعة في بَدَنة، وكانوا ألفًا وأربعمائة، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم، وقيل‏:‏ بل كانوا على طَرف الحرم، فالله أعلم‏.‏

ولهذا اختلف العلماء هل يختص الحصر بالعدو، فلا يتحلل إلا من حصره عَدُو، لا مرض ولا غيره‏؟‏ على قولين‏:‏

فقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، حدثنا سفيان، عَنْ عمرو بن دينار، عن ابن عباس، وابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، وابن أبي نَجِيح ‏[‏ومجاهد‏]‏ عن ابن عباس، أنه قال‏:‏ لا حَصْرَ إلا حصرُ العدو، فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء، إنما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنْتُمْ‏}‏ فليس الأمن حصرًا‏.‏ قال‏:‏ وروي عن ابن عمر، وطاوس، والزهري، وزيد بن أسلم، نحو ذلك‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أن الحصر أعمّ من أن يكون بعدُوّ أو مرض أو ضلال -وهو التَّوَهان عن الطريق أو نحو ذلك‏.‏ قال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا حَجَّاج بن الصوّافُ، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو الأنصاري، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من كُسِر أو عَرِج فقد حل، وعليه حجة أخرى‏"‏‏.‏ قال‏:‏ فذكرت ذلك لابن عباس وأبي هريرة فقالا صدق‏.‏ وأخرجه أصحاب الكتب الأربعة من حديث يحيى بن أبي كثير، به‏.‏ وفي رواية لأبي داود وابن ماجة‏:‏ من عرج أو كُسر أو مَرض -فذكر معناه‏.‏ ورواه ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن عُلَيَّة، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف، به‏.‏ ثم قال‏:‏ وروي عن ابن مسعود، وابن الزبير، وعلقمة، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومجاهد، والنخعي، وعطاء، ومقاتل بن حيان، أنهم قالوا‏:‏ الإحصار من عدو، أو مرض، أو كسر‏.‏

وقال الثوري‏:‏ الإحصار من كل شيء آذاه‏.‏ وثبت في الصحيحين عن عائشة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَل على ضُبَاعة بنت الزبير بن عبد المطلب، فقالت‏:‏ يا رسول الله، إني أريد الحج وأنا شاكية‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏حُجِّي واشترطي‏:‏ أنَّ مَحِلِّي حيثُ حبَسْتَني‏"‏ ‏.‏ ورواه مسلم عن ابن عباس بمثله‏.‏ فذهب من ذهب من العلماء إلى صحة الاشتراط في الحج لهذا الحديث‏.‏ وقد علق الإمام محمد بن إدريس الشافعي القولَ بصحة هذا المذهب على صحة هذا الحديث‏.‏ قال البيهقي وغيره من الحفاظ‏:‏ فقد صح، ولله الحمد‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ قال الإمام مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي ابن أبي طالب أنه كان يقول‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ شاة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الهَدْي من الأزواج الثمانية‏:‏ من الإبل والبقر والمعز والضأن‏.‏

وقال الثوري، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ قال‏:‏ شاة‏.‏ وكذا قال عطاء، ومجاهد، وطاوس، وأبو العالية، ومحمد بن علي بن الحسين، وعبد الرحمن بن القاسم، والشعبي، والنّخعي، والحسن، وقتادة، والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهم مثلَ ذلك، وهو مذهب الأئمة الأربعة‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم، عن عائشة وابن عمر‏:‏ أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر‏.‏

قال‏:‏ ورُوِي عن سالم، والقاسم، وعروة بن الزبير، وسعيد بن جبير -نحوُ ذلك‏.‏

قلت‏:‏ والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قضية الحديبية، فإنه لم يُنْقَل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذاك شاة، وإنما ذبحوا الإبل والبقر، ففي الصحيحين عن جابر قال‏:‏ أمرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ قال‏:‏ بقدر يَسَارته‏.‏

وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ إن كان موسرًا فمن الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم‏.‏ وقال هشام بن عروة، عن أبيه‏:‏ ‏{‏فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ قال‏:‏ إنما ذلك فيما بين الرّخص والغلاء‏.‏

والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجْزَاء ذبح الشاة في الإحصار‏:‏ أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي، أي‏:‏ مهما تيسر مما يسمى هديًا، والهَدْي من بهيمة الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم، كما قاله الحَبْر البحر ترجمان القرآن وابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقد ثَبتَ في الصحيحين عن عائشة أمّ المؤمنين، رضي الله عنها، قالت‏:‏ أهْدَى النبي صلى الله عليه وسلم مَرة غنمًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ‏}‏ معطوف على قوله‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ وليس معطوفًا على قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ كما زعمه ابن جرير، رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق ‏{‏حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ‏}‏ ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة، إن كان قارنًا، أو من فعْل أحدهما إن كان مُفْردًا أو متمتعًا، كما ثبت في الصحيحين عن حَفْصَةَ أنها قالت‏:‏ يا رسول الله، ما شأن الناس حَلّوا من العمرة، ولم تَحِلّ أنت من عمرتك‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إني لَبَّدْتُ رأسي وقلَّدت هَدْيي، فلا أحلّ حتى أنحر‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ قال البخاري‏:‏ حدثنا آدم، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني‏:‏ سمعت عبد الله بن مَعْقل، قال‏:‏ فعدت إلى كعب بن عُجْرَةَ في هذا المسجد -يعني مسجد الكوفة -فسألته عن ‏{‏فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ‏}‏ فقال‏:‏ حُملْتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقملُ يتناثر على وجهي‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏ما كنتُ أرَى أن الجَهد بلغ بك هذا‏!‏ أما تجد شاة‏؟‏ ‏"‏ قلت‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏صُمْ ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع من طعام، واحلق رأسك‏"‏‏.‏ فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة‏.‏

وقال الإمام أحمدُ‏:‏ حدثنا إسماعيلُ، حدثنا أيوب، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عُجْرَة قال‏:‏ أتى عَلَيّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر، والقَمْلُ يتناثَرُ على وجهي -أو قال‏:‏ حاجبي -فقال‏:‏ ‏"‏يُؤْذيك هَوَامُّ رأسك‏؟‏‏"‏‏.‏ قلت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فاحلقه، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك نسيكة‏"‏‏.‏ قال أيوب‏:‏ لا أدري بأيتهن بدأ‏.‏

وقال أحمد أيضا‏:‏ حدثنا هُشَيْم، أخبرنا أبو بشر عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ونحن محرمون وقد حصره المشركون وكانت لي وَفْرة، فجعلت الهوام تَسَاقَطُ على وجهي، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏أيؤذيك هوام رأسك‏؟‏ ‏"‏ فأمره أن يحلق‏.‏ قال‏:‏ ونزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏‏.‏

وكذا رواه عفان، عن شعبة، عن أبي بشر، وهو جعفر بن إياس، به‏.‏ وعن شعبة، عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، به‏.‏ وعن شعبة، عن داود، عن الشعبي، عن كعب بن عُجْرَة، نحوه‏.‏

ورواه الإمام مالك عن حميد بن قيس، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب ابن عجرة -فذكر نحوه‏.‏

وقال سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أبان بن صالح، عن الحسن البصري‏:‏ أنهسمع كعب بن عُجْرَة يقول‏:‏ فذبحت شاة‏.‏ رواه ابن مَرْدُوَيه‏.‏ وروي أيضًا من حديث عمر بن قيس، سندل -وهو ضعيف -عن عطاء، عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏النسك شاة، والصيام ثلاثة أيام، والطعام فَرَق، بين ستة‏"‏‏.‏

وكذا رُوي عن علي، ومحمد بن كعب، وعكرمة وإبراهيم ‏[‏النخعي‏]‏ ومجاهد، وعطاء، والسدي، والربيع بن أنس‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا عبد الله بن وهب‏:‏ أن مالك بن أنس حدثه عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب ابن عُجْرة‏:‏ أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآذاه القَمْل في رأسه، فأمره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه، وقال‏:‏ ‏"‏صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، مُدّين مدّين لكل إنسان، أو انسُك شاة، أيَّ ذلك فعلتَ أجزأ عنك‏"‏‏.‏

وهكذا روى ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ قال‏:‏ إذا كان ‏"‏أو‏"‏ فأيه أخذتَ أجزأ عنك‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ وروي عن مجاهد، وعكرمة، وعطاء، وطاوس، والحسن، وحُميد الأعرج، وإبراهيم النخَعي، والضحاك، نحو ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء أنه يُخَيَّر في هذا المقام، إن شاء صام، وإن شاء تصدّق بفَرق، وهو ثلاثة آصع، لكل مسكين نصفُ صاع، وهو مُدّان، وإن شاء ذبح شاة وتصدّق بها على الفقراء، أيّ ذلك فعل أجزأه‏.‏ ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاءَ بالأسهل فالأسهل‏:‏ ‏{‏فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ ولما أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم كعبَ بن عجرة بذلك، أرشده إلى الأفضل، فالأفضل فقال‏:‏ انسك شاة، أو أطعم ستة مساكين أو صم ثلاثة أيام‏.‏ فكلّ حسن في مقامه‏.‏ ولله الحمد والمنة‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ حدّثنا أبو كُرَيْب، حدّثنا أبو بكر بن عياش قال‏:‏ ذكر الأعمشُ قال‏:‏ سأل إبراهيمُ سعيدَ بن جبير عن هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ فأجابه يقول‏:‏ يُحْكَم عليه طعام، فإن كان عنده اشترى شاة، وإن لم يكن قوّمت الشاة دراهم، وجعل مكانها طعام فتصدق، وإلا صام بكل نصف صاع يومًا، قال إبراهيم‏:‏ كذلك سمعت علقمة يذكر‏.‏ قال‏:‏ لما قال لي سعيد بن جبير‏:‏ من هذا‏؟‏ ما أظرفه‏!‏ قال‏:‏ قلت‏:‏ هذا إبراهيم‏.‏ فقال‏:‏ ما أظرفه‏!‏ كان يجالسنا‏.‏ قال‏:‏ فذكرت ذلك لإبراهيم، قال‏:‏ فلما قلت‏:‏ ‏"‏يجالسنا‏"‏ انتفض منها‏.‏

وقال ابن جرير أيضًا‏:‏ حدثنا ابن أبي عمران، حدثنا عبُيَد الله بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ قال‏:‏ إذا كان بالمُحْرِم أذى من رأسه، حَلَق وافتدى بأيّ هذه الثلاثة شاء، والصيام عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين، كلّ مسكين مَكُّوكين‏:‏ مكوكا من تمر، ومكوكا من بُر، والنسك شاة‏.‏

وقال قتادة، عن الحسن وعكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ قال‏:‏ إطعام عشرة مساكين‏.‏

وهذان القولان من سعيد بن جبير، وعلقمة، والحسن، وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر؛ لأنه قد ثَبَتت السنةُ في حديث كعب بن عُجْرة بصيام ثلاثة أيام، ‏[‏لا عشرة و‏]‏ لا ستة، أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة، وأن ذلك على التخيير كما دَلّ عليه سياق القرآن‏.‏ وأما هذا الترتيبُ فإنما هو معروفٌ في قَتْل الصيد، كما هو نص القرآن‏.‏ وعليه أجمع الفقهاء هناك، بخلاف هذا، والله أعلم‏.‏

وقال هُشَيم‏:‏ أخبرنا ليث، عن طاوس‏:‏ أنه كان يقول‏:‏ ما كان من دم أو طعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء‏.‏ وكذا قال عطاء، ومجاهد، والحسن‏.‏

وقال هُشَيم‏:‏ أخبرنا حجاج وعبد الملك وغيرهما عن عطاء‏:‏ أنه كان يقول‏:‏ ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء‏.‏

وقال هشيم‏:‏ أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، أخبرنا أبو أسماء مولى ابن جعفر، قال‏:‏ حج عثمان بن عفان، ومعه علي والحسين بن علي، فارتحل عثمان‏.‏ قال أبو أسماء‏:‏ وكنت مع ابن جعفر، فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه، قال‏:‏ فقلت‏:‏ أيها النؤوم ‏.‏ فاستيقظ، فإذا الحسين بن علي‏.‏ قال‏:‏ فحمله ابنُ جعفر حتى أتينا به السُّقْيا قال‏:‏ فأرسل إلى علي ومعه أسماء بنت عميس‏.‏ قال‏:‏ فمرضناه نحوا من عشرين ليلة‏.‏ قال‏:‏ قال علي للحسين‏:‏ ما الذي تجد‏؟‏ قال‏:‏ فأومأ بيده إلى رأسه‏.‏ قال‏:‏ فأمر به عَليّ فَحَلَق رأسه، ثم دعا ببدنَةٍ فنحرها‏.‏ فإن كانت هذه الناقة عن الحلق ففيه أنه نحرها دون مكة‏.‏ وإن كانت عن التحلل فواضح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ أي‏:‏ إذا تمكنتم من أداء المناسك، فمن كان منكم مُتَمتِّعًا بالعُمرة إلى الحج، وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولا فلما فرغ منها أحرم بالحج وهذا هو التمتع الخاص، وهو المعروف في كلام الفقهاء‏.‏ والتمتع العام يشمل القسمين، كما دلت عليه الأحاديثُ الصحاح، فإن من الرُواة من يقولُ‏:‏ تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وآخر يقول‏:‏ قَرَن‏.‏ ولا خلاف أنّه ساق الهدي‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ‏}‏ أي‏:‏ فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وأقله شاة، وله أن يذبح البقر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر‏.‏ وقال الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح بقرة عن نسائه، وكن متمتعات‏.‏ رواه أبو بكر بن مَرْدويه‏.‏

وفي هذا دليل على شرعية التمتع، كما جاء في الصحيحين عن عمْران بن حُصين قال‏:‏ نزلت آية المتعة في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم لم يُنزل قرآن يُحَرّمه، ولم يُنْهَ عنها، حتى مات‏.‏ قال رجل بِرَأيه ما شاء ‏.‏ قال البخاري‏:‏ يقال‏:‏ إنه عُمَر‏.‏ وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحًا به أن عمر، رضي الله عنه، كان ينهى الناس عن التمتع، ويقول‏:‏ إن نأخذ بكتاب الله فإنّ الله يأمر بالتمام‏.‏ يعني قوله‏:‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ‏}‏ وفي نفس الأمر لم يكن عمر، رضي الله عنه، ينهى عنها محَرِّمًا لها، إنما كان يَنْهَى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين، كما قد صرح به، رضي الله عنه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏ يقول تعالى‏:‏ فمن لم يجد هَدْيًا فَلْيصمْ ثلاثة أيام في الحج، أي‏:‏ في أيام المناسك‏.‏ قال العلماء‏:‏ والأولى أن يصومها قبل يوم عَرَفة في العشر، قاله عطاء‏.‏ أو من حين يحرم، قاله ابن عباس وغيره، لقوله‏:‏ ‏{‏فِي الْحَجِّ‏}‏ ومنهم من يجوِّز صيامها من أول شوال، قاله طاوس ومجاهد وغير واحد‏.‏ وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين، وكذا قال مجاهد، وسعيد بن جُبَير، والسّدّي، وعطاء، وطاوس، والحكم، والحسن، وحماد، وإبراهيم، وأبو جعفر الباقر، والربيع، ومقاتل بن حَيّان‏.‏ وقال العوفي، عن ابن عباس‏:‏ إذا لم يجد هَدْيًا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإذا كان يومُ عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله‏.‏ وكذا رَوَى أبو إسحاق عن وبرة، عن ابن عمر، قال‏:‏ يصوم يومًا قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة‏.‏ وكذا رَوَى عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي أيضًا‏.‏

فلو لم يَصُمْها أو بعضها قبل ‏[‏يوم‏]‏ العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق‏؟‏ فيه قولان للعلماء، وهما للإمام الشافعي أيضًا، القديم منهما أنه يجوزُ له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري‏:‏ لم يرَخّص في أيام التشريق أن يُصَمن إلا لمن لا يجد الهَدي ‏.‏ وكذا رواه مالك، عن الزّهري، عن عروة، عن عائشة‏.‏ وعن سالم، عن ابن عمر ‏[‏إنما قالوا ذلك لعموم قوله‏:‏ ‏{‏فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ‏}‏‏]‏ ‏.‏ وقد روي من غير وجه عنهما‏.‏ ورواه سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي أنه كان يقول‏:‏ من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق‏.‏ وبهذا يقول عُبَيد بن عُمَير الليثي وعكرمة، والحسن البصري، وعروة بن الزبير؛ وإنما قالوا ذلك لعموم قوله‏:‏ ‏{‏فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ‏}‏ والجديد من القولين‏:‏ أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق، لما رواه مسلم عن نبَيْشَة الهذلي، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إذا رجعتم في الطريق‏.‏ ولهذا قال مجاهد‏:‏ هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق‏.‏ وكذا قال عطاء بن أبي رباح‏.‏

والقول الثاني‏:‏ إذا رجعتم إلى أوطانكم؛ قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن سالم، سمعت ابن عمر قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ‏}‏ قال‏:‏ إذا رَجَع إلى أهله، وكذا رُوي عن سعيد بن جُبَير، وأبي العالية، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والزهري، والربيع بن أنس‏.‏ وحكى على ذلك أبو جعفر بن جرير الإجماع‏.‏

وقد قال البخاري‏:‏ حدثنا يحيى بن بُكَير، حدثنا الليث، عن عُقَيل، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال‏:‏ تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حَجَّة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهَدْي من ذي الحُلَيفة، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلَّ بالعمرة، ثم أهلَّ بالحج، فتمتع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج‏.‏ فكان مِنَ الناس مَنْ أهدى فساق الهَدْي، ومنهم من لم يُهْد‏.‏ فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس‏:‏ ‏"‏من كان منكم أهدى فإنه لا يَحل لشيء حَرُم منه حتَى يقضي حَجّه، ومَنْ لم يكن منكم أهدى فَلْيَطُفْ بالبيت وبالصفا والمروة، وَلْيُقَصِّر وليَحللْ ثم ليُهِلّ بالحج، فمن لم يجد هديًا فليصُمْ ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله‏"‏‏.‏ وذكر تمام الحديث‏.‏

قال الزهري‏:‏ وأخبرني عروة، عن عائشة بمثل ما أخبرني سالم عن أبيه والحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏ قيل‏:‏ تأكيد، كما تقول العرب‏:‏ رأيت بعيني، وسمعت بأذني وكتبت بيدي‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 38‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 48‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ معنى ‏{‏كَامِلَةٌ‏}‏ الأمْرُ بإكمالها وإتمامها، اختاره ابنُ جرير‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏كَامِلَةٌ‏}‏ أي‏:‏ مُجْزئة عن الهَدْي‏.‏ قال هُشَيْم، عن عباد بن راشد، عن الحسن البصري، في قوله‏:‏ ‏{‏تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ‏}‏ قال‏:‏ مِنَ الهَدْي‏.‏وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ اختلف أهلُ التأويل فيمن عُني بقوله‏:‏ ‏{‏لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم مَعْنِيُّون به، وأنه لا متعة لهم، فقال بعضهم‏:‏ عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم‏.‏

حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان -هو الثوري -قال‏:‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ هم أهل الحَرَم‏.‏ وكذا روى ابن المبارك، عن الثوري، وزاد‏:‏ الجماعة عليه‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ذُكر لنا أن ابن عباس كان يقول‏:‏ يا أهل مكة، لا متعة لكم، أحلت لأهل الآفاق وحُرِّمت عليكم، إنما يقطع أحدكم واديا -أو قال‏:‏ يجعل بينه وبين الحرم واديًا - ثم يُهِلّ بعمرة‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ حدثنا مَعْمَر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال‏:‏ المتعةُ للناس -لا لأهل مكة -مَنْ لم يكن أهله من الحرم‏.‏ وذلك قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ قال‏:‏ وبلغني عن ابن عباس مثلُ قول طاوس‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هم أهل الحرم ومن بَيْنه وبين المواقيت، كما قال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا معمر عن رجل، عن عطاء، قال‏:‏ من كان أهله دون المواقيت، فهو كأهل مكة، لا يتمتع‏.‏

وقال عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن مكحول، في قوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ قال‏:‏ من كان دون الميقات‏.‏

وقال ابن جُرَيْج عن عطاء‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ قال‏:‏ عرفة، ومَرّ، وعُرَنة، وضَجْنان، والرجيع‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا معمر، سمعت الزهري يقول‏:‏ من كان أهله على يوم أو نَحْوه تَمتَّع‏.‏ وفي رواية عنه‏:‏ اليوم واليومين‏.‏ واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم، ومن كان منه على مسافة لا تُقْصَر منها الصلاة؛ لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرًا، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ فيما أمركم وما نهاكم ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ أي‏:‏ لمن خالف أمره، وارتكب ما عنه زجره‏.‏